Thursday 14 June 2007

أدجلة أتسمعين أنيني؟



تبتلعني محطات و تلفظني اخرى الى شوارع و أزقة غريبة، أجوب هائما ابحث عن هوية أودعتها ركن بيت بغدادي كان يوما يضج بالحياة، أحلق في فضاءات بعيدة، أتأمل وجه أمي وقد غزته التجاعيد، أسمع حشرجات صوتها و هي تبكي:
(دللول يالولد يبني دللول
عدوك عليل و ساكن الچول)
ينهار الجسد منهكا و الروح يملوءها خواء أبدي و الرأس مثقل بالهموم، أتمدد على رصيف الغربة كمحارب مهزوم أعلك ما تبقى من سنين العمر، أتنفس الذكريات، أبحث عن أوراق لم يبق منها سوى قوائم الديون وأشلاء دفتر مدرسي قديم
في الصفحة الاولى رسمت طيورا و أشجارا وشمسا و حقول
في الصفحة الثانية كتبت ... دار دور
الثالثة...
(خسرنا البلاد
خسرنا الاغاني
و رحنا نجوب المنافي البعيدة
نستجدي العابرين)
الرابعة...
و الخامسة...
تتوالى الصفحات و السنون و الحروب و القنابل و الملاجىء و الهروب و الخوف و الحصار والنساء والدم و العشق و الموت.

أغمضت عيني فطافت بي الرؤى و رمتني عند نخيل العراق، استوقفني حراس الحدود : جوازك أخي؟
فرشت سنين الغربة على الطاولة وراحوا يقلبوها بمقدمات بنادقهم
وأخذ أحدهم يدقق الاختام: الوجع عراقي، الهوى عراقي، الحزن عراقي و الجرح عراقي ووو
هز الحارس رأسه بأزدراء و قال: ممنوع
فتردد الصدى و امتزج بنحيب قرى الجنوب

(ممنوع
بيج الفرح يبلادي
ممنوع
بيج الفرح
والحزن ممنوع
ويجذب الكَال العمر يحلى
بلايه دموع)
افترشت المنفى على الحدود متوسدا أماني اللقاء بالمتنبي و الرشيد و أبي نؤاس. أرى ابن الوردي متأبطا لمحاته يشرب قهوته بصمت في مقهى حسن عجمي و السياب يحصي أزهاره الذابلة في الدروب و الاخضر بن يوسف يجلس عاطلا يبحث عن عشق تركه يوما تحت جدارية في ساحة الطيران و النواب يبحث يائسا عن حمد في مقابر جماعية. ألتفت الى يميني فوجدت الشيخ الجواهري ينثر أشعاره ورودا فتزهر الارض من دموع جموع تقاسمتها الحروب و الموت تعبر الى النأي تجر وراءها ما تبقى من فتات عراق خبأته على عجل في سرة أمست زادها في المنافي.

نهضت و فتحت ذراعي وسع العراق ومددت ضلوعي جسرا فعبر فوقه اللصوص و المرتشون و الاعراب و الاغراب و اللوطيون و المخصيون و المعممون و الملتحون و الانتحاريون و... وبقيت أنا وحدي و ما زال الشيخ الجواهري ينثر قصائده من حولي و النواب يزيت مكائن ريله
فصرخت :
(أدجلة أتسمعين أنيني؟ ان العبرات تحمل في طياتها كلمات و ان لم تسمعي مني فلا تحزني
وخذي سجعي فذاك شعر نظمته فرتله الحمام هديلا).